الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
ففي تعاقب الليل والنهار، ومرور الشهور والأعوام عبرة لمن اعتبر، ومواعظ
لمن ادكر، إذ تتغير الأوضاع، وتتقلب الأحوال، ويرفع الله أقواما، ويضع
آخرين.
في العام المنتهي عَز أفراد من بعد ذلة، وذل غيرهم من بعد عزة، واغتنى
أناس، وافتقر آخرون، وشُفي مرضى، ومرض أصحاء، وقامت حروب، وشردت شعوب،
وهكذا الأيام والليالي في تقلباتها واحوالها.
نعمة وعبرة:
في تعاقب الليل والنهار، ودوران الزمن، نعمة وعبرة:
أما النعمة فجاء ذكرها في قول الله -تعالى-: {اللَّهُ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ
مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [غافر: 61]، وفي أية أخرى قال -تعالى-: {قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ
أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ
عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ
غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا
تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ} [القصص: 71- 73].
وأما العبرة والعظة فنهاية عام ودخول عام، وكل ذلك أيام تنقضي من عمرك يا
ابن آدم، وأنت تقترب من الآخرة يوما بعد يوم، والموت يطلبك ويقترب منك ساعة
بعد ساعة.
قال الحسن البصري -رحمه الله-: "يا ابن آدم إنما أنت أيام، كلما انقضى يوم ذهب بعضك".
أيها المسلم: وأنت تدخل عاما جديدا:
هل راجعت حساباتك في عبادة ربك وطاعة مولاك؟
كيف كنت في العام الماضي مع المعاصي والذنوب؟
كيف كان تعاملك مع الهوى والشيطان؟
هل كان جهاد ومجاهدة، واستعاذة ومخالفة، أم هو استسلام للهوى وموافقة،
وطاعة للشيطان ومتابعة؟! ألم تعلم أن العام طوي بما فيه من خير وشر؟ رفعت
أفلامه! وجفت صحفه! وسجلت أعماله!!
في ختام العام: أفلا يكون منك فرح وسرور بما عملت من خير فيه يحفزك إلى
زيادة ومثابرة، واكتساب للخيرات ومسابقة في الصالحات؛ يصاحبه شعور ندم
وتأسف على تفريط في اكتساب المزيد من الحسنات، والوقوع في بعض المحرمات أو
المكروهات، فيقودك هذا الشعور إلى صدق التوجه إلى الله -تعالى- بالتوبة
النصوح، وسلوك الصراط المستقيم والانضمام إلى حزب المتقين. يخالط هذا وذاك
اعتبار وتفكر، وتأمل وتدبر في صروف الدهر، وأحداث الليالي والأيام، ومضي
الأقدار بما كان ومباغتة المنايا الإنسان.
بمثل هذا الشعور والإحساس يختم المؤمنون المفلحون ذوو الغايات النبيلة
والنفوس السامية والهمم العالية عاما قد مضى، ويستقبلون عاما قد حل.
أما العابثون اللاهون فيأكلون وينامون ويعبثون ولا يأخذون من مرور الأيام
عبرا، ولا يستفيدون من أحداث العام دروسا. فليس لهم أهداف عالية ولا غايات
نبيلة، وقد انحصرت أهدافهم في إشباع شهواتهم وإرواء نزواتهم.
من يا ترى يعتبر؟!
كم من أشخاص عاشوا العام الراحل بالآمال والتطلعات للمستقبل وبنائه
وتأمينه!! كدحوا في طلب الدنيا كثيرا، وضربوا في الأرض لاكتساب الرزق
طويلا. تطلعوا للمناصب العالية وسعوا في تحصيل الأموال الكثيرة. جدوا في
بناء البيوت الكبيرة وتوفير المراكب المريحة. نافسوا في الدنيا وتفوقوا
فيها وتغلبوا على الأقران وجاوزوا الصعوبات، وأمنوا عيشا رغيدا لأهلهم
وأولادهم، لكنهم كانوا عن الآخرة من الغافلين، وعن تحصيل رضوان الله
معرضين، وإلى الموبقات سباقين. {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]، {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: 63].
بينما هم كذلك مسرورين، في أهليهم وأموالهم، في قصورهم ومناصبهم، نادتهم
القبور، وتخطفتهم المنون، فرحلوا عن الدنيا وهم فيها يؤملون. لم تنفعهم
أموالهم ولا أولادهم! ولم تغن عنهم مناصبهم ولا نفوذهم!!
ألم يكونوا بيننا في العام الراحل، يتصدرون المجالس، ويشرفون الولائم؟! في مديحهم ألقيت القصائد، وثناء عليهم سودت الصحائف!!
يتقرب الناس إليهم لغزهم ومكانتهم، منهم من تجبروا وظلموا، وعلى ربهم
تكبروا، فأبى الله -تعالى- إلا أن يذلهم بالموت من بعد عزة، ويضعهم من بعد
رفعة.
رحل العام ورحلوا ولم يبق لهم إلا ما عملوا، قد نُسيت أخبارهم واندرست
آثارهم، وذهب توقيرهم واحترامهم!! أوليس فيهم أبلغ موعظة وعبرة؟! فهل نتأمل
ونتدبر؟ وبمن مضى نتعظ ونعتبر، فإنا نسير إلى ما ساروا إليه، ولسوف نرِد
على ما وردوا عليه.
سوف نرِد على قبور ليس لنا فيها مال ولا ولد ولا متاع، ليس ثَم إلا عملنا
الصالح!! أولا ننظر إلى الطلاب أيام الاختبار؟ كيف يكونوا وجلين خائفين؟
يسهرون لياليهم ويتعبون أبصارهم، وينهكون أجسادهم. أيام الاختبار عندهم
أيام محنة وبلاء يدعون الله -تعالى- ويتضرعون إليه أن تنتهي على خير، وكل
ذلك من أجل تحصيل لذة نجاح محدود، ويتكرر، وفي حال الإخفاق يمكن التعويض
وإذا لم يعوض لم يفقد من الدنيا إلا قليلا، والمغبون عند الناس من يفشل في
تحصيل الشهادات العالية والتخصصات المهمة فإذا كان هذا حال مغبون الدنيا
الذي لم يفقد منها إلا جزءا يسيرا؛ فكيف بمغبون الآخرة الذي يتمنى أن يكون
ترابا فلا يكون ترابا، ويرجو أن يرجع إلى الدنيا ليعمل صالحا فلا يمكنه
ذلك: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ
صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ
وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99، 100] ونعوذ بالله من حال أهل النار، إذ يتمنون الرجوع للعمل ولا حينئذ رجوع ولا عمل وإنما هو حساب وجزاء: {وَلَوْ
تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ
وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا
لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 27، 28].
وبعد، فهذه وقفة تأمل وتدبر، يحسن بنا أن نقفها في أول يوم من عامنا
الجديد، فلعلنا نحاسب أنفسنا قبل بلوغ أجلنا. فالسعيد من فارق الدنيا بختام
حسن، وأقبل على الآخرة يستقبله رضوان الله -تعالى- وملائكة الرحمة تبشره
بالروح والريحان، وويل لمن كان على العكس من ذلك ونعوذ بالله من حال أهل
النار.
وأخيرا أخي المسلم: اقرأ وتدبر قول الله -تعالى-: {وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ
وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ
رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ
فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ
فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ
مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ
حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ
فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 12- 15].
قال الحسن البصري -رحمه الله تعالى-: "يا ابن آدم، بسطت لك صحيفتك، ووكل بك
ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك
فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت.. أقلل أو
أكثر، حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم
القيامة كتابا تلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا. فقد
عدل والله من جعلك حسيب نفسك". قال ابن كثير تعليقا عليه: هذا من أحسن كلام
الحسن -رحمه الله-. (تفسير ابن كثير 3/ 47).