الصيام ..وهو عبادة قوامها أن يمتلك المرء نفسه، وأن يحكم هواه، وأن تكون لديه العزيمة التي يترك بها ما يشتهى، ويقدم بها على ما يكره..!!
قوام الصيام تحرير الإرادة الإنسانية، وجعلها تبعا لأوامر الله لا لرغائب النفس..!!
و تحرير الإرادة هو الفرق الهائل، لا أقول بين الحر والعبد، بل بين الإنسان والحيوان..!!
إن الدابة تفعل ما تحب، وتدع ما يضايقها .
والمسافة بين عزيمتها وشهوتها معدومة، بل لا عزيمة هنالك، ولا صراع بين شهوات وواجبات .
أما الإنسان فيتطلع إلى أمور تردعه عنها حواجز شتى . .
فإن غلب رشده كان عقله حاكما لرغائبه، وإلا فهو إلى الدواب أدنى .
. . ذلك وليس الصيام عن الشهوات فارقا فقط بين الإنسان والحيوان، بل هو فارق بين الناجحين من الناس والفاشلين . .
فالنجاح في كل شيء قدرة على تحميل النفس الصعاب، وتصبيرها على الشدائد، وقدرة على منعها ما تستحلى، وفطامها عما تبغي .
ومن قديم عرف طلاب العلا هذه الحقيقة، واستيقنوا من أن الراحة الكبرى لا تنال إلا على جسر من التعب، وأن من طلب عظيما خاطر بعظيمته، وأن ركوب المشقات هو الوسيلة الوحيدة لإدراك المجد .
وقد شرع الإسلام الصيام للناس؛ كى يدربهم على قيادة شهواتهم، لا الانقياد لها.
ومن هنا حرم على المؤمنين من مطلع الفجر إلى أول الليل أن يجيبوا أقوى غرائبهم، وأن يتمرنوا الحرمان الموقوت، وأن يتدربوا عمليا على فهم الحديث الجليل " حُفت الجنة بالمكاره، وحُفت النار بالشهوات " (تيسير الوصول) .
و الصيام " امتناع " عن أمور.. والامتناع عنصر "سلبي" لا يراه الناس، عادة إنه سر باطن كالإخلاص، ما يعرفه إلا علام الغيوب .
وذلك تفسير ما ورد في الحديث القدسي: " الصوم لي " (البخاري).
إنه امتناع عن الطبائع المادية للبطن والفرج.
وهو كذلك امتناع عن مطاوعة طبائع الغضب والاستفزاز، والصائم ساكن وقور، وذاك أعون له على ذكر الله، وصفاء النفس.